العنف في المدارس/ بقلم: صبحي عدوي

كل العرب
نُشر: 01/01 10:54,  حُتلن: 14:19

صبحي عدوي في مقاله:

العنف لا يولد في المدارس، بل يُصَدَّرُ إليها من براكين البيوت، وأزقّة الشّوارع، ومحالّ الأراجيل، وبحار الإنترنت

العنف هو فرض إرادة القويّ على الضّعيف والتّحكّم فيه. العنف يعود إلى عجز الإنسان، وينبع من الغضب والإحباط والشّعور بالنّقص، فالعنيف هو الضّعيف

العنف نَمَط سلوكيّ مكتسب ومُتوارث عبر الأجيال والثّقافة السّائدة في مجتمعنا تشجّع العنف وتمجّده. الصّغار يتعلّمون العنف من الكبار

الكبار يربّون على العنف. تعلّم العنف يبدأ بالأسرة: "اللّي بضربك أضربه"، بدّيش ايّاك ملطشه"، "تروّحش ع الدّار بلا ما توخذ حقّك بيدك"

تؤلمني جدًّا رؤية "الخبر العاجل" الّذي بات يتراقص على شاشات المواقع الإلكترونيّة بوتيرة يوميّة والّذي مفاده: "شجار عنيف وقع في مدرسة ..."، مع العلم أنّ هنالك حالات كثيرة تبقى تتراقص في حلبات المدارس دون أن تصل إلى وسائل الإعلام.

يؤلمني ذلك، تماما كما يؤلمني سماع السّمفونيّة الحزينة بوتيرة شبه يوميّة، والّتي تنذرُ بـــــ "وقوع حادث طرق مؤلم ذهب ضحيّته شابّ في العشرينيّات..."، ثمّ يتابع الخبر: "على ما يبدو أنّ الضّحيّة من الوسط العربيّ"، ولكن سرعان ما تسقط "على ما يبدو" ليبقى "المرحوم من الوسط العربيّ".

والأمران: العنف في المدارس، والعنف في الشّوارع، بعضهما من بعض.

أودّ أن أتناول موضوع "العنف في المدارس"، ليس من باب جلد الذّات، أو مدّ أصابع الإتّهام صوب هذا الطّرف أو ذاك، إنّما أردت أن أتناول هذه الظّاهرة المقلقة، الّتي تنتشر في مجتمعنا انتشار النّار في الهشيم، تنخر عظامنا وتقضّ مضاجعنا!!.

أودّ كذلك أن أشير إلى أنّ الحديث هنا لا يدور حول بلد معيّن، أو مدرسة خاصّة، أو سلطة محلّيّة عينيّة أو معلم محدّد، العنف موجود في جميع المدارس، مع وجود تفاوت بين مدرسة وأخرى، العنف يزداد وينقص مع اختلاف المكان والزّمان. إنّما أردت أن أصف واقع الحال بشكل عامّ، وأن أتناول الموضوع بموضوعيّة، بمصداقيّة وبمهنيّة.

العنف في المدارس يُمارَس من قبل طالب ضدّ طالب آخر، أو من قبل معلّم ضدّ طالب، أو طالب ضدّ معلّم، أو وليّ أمر ضدّ رجل تربية، أو ضدّ زميل ابنه في المدرسة.

كوني تربويّ مخضرم، عايشت التّربية والتّعليم مدّة أربعين سنة ونيّف، أستطيع أن أقول بأنّ العنف في المدارس كان موجودًا، وهو كائنٌ اليوم، وفي تصوّري سيكون غدًا، لأسفي الشّديد. لكن تعدّدت أنواعه واختلفت أشكاله وازدانت صوره وازدادت حدّته وتسارعت وتيرته. كنّا نسمع بين الفينة والأخرى عن العنف الكلاميّ والجسديّ، ولكنّه كان من الوزن الخفيف. واليوم انتقلنا إلى الوزن الثّقيل: سكاكين، مفكّات، مخمّسات، عصيّ كهربائيّة ثمّ ... أسلحة ناريّة. ثمّ دخل العنف الجنسيّ والنّفسيّ، إلى أن آل بنا المطاف إلى العنف الإلكترونيّ، وهو أكثره شيوعا في مجتمعنا عامّة وفي مدارسنا خاصّة، وهو أساس كلّ بلاء.

ما هو العنف؟

العنف هو سلوك عدوانيّ يرتكز على حذف الآخر، وإلحاق الأذى به باليد، أو باللّسان، ولن أقلّل من جرح اللّسان، فكَلِمُ اللّسان أنكى من كَلِمِ السّنان. العنف هو التّأثير على الفرد وإرغامه على العمل رغم أنفه باستعمال القوّة أو التّهديد. العنف هو فرض إرادة القويّ على الضّعيف والتّحكّم فيه. العنف يعود إلى عجز الإنسان، وينبع من الغضب والإحباط والشّعور بالنّقص، فالعنيف هو الضّعيف.

مظاهر العنف:

التّخويف، التّهديد، التّحقير، السّبّ والشّتم، التّنابز بالألقاب، التّحرّش الجنسيّ، الإبتزاز، التّنمّر، نشر الصّور، تركيبها وفبركتها، التّشهير، استعمال الأدوات الحادّة، الجرافيت، الرّسم والخرابيش على الجدران والطّاولات، تخريب ممتلكات، تكسير، تمزيق، انفلات...

أسبابه:

أسباب مباشرة وأسباب غير مباشرة، أسباب ترتبط بالأسرة وأخرى مرتبطة بالمدرسة. الأسباب الّتي تعود إلى الدّولة ومؤسّساتها: شحّ الميزانيّات، سياسة التّمييز والقهر والعنف .. والأسباب الّتي تعود إلى وسائل الإعلام ودورها في تغذية العنف بمشاهدها الّتي تبهر المراهق، وتُخرج نزواته من عقالها، فيتهافت عليها تهافت الفَرَاش على النّور. والسّلطات المحليّة: الإكتظاظ، قلّة الأطر المناسبة والنّوادي، فالفراغ مفسدة ... كلّ ذلك أتركه إلى القياديّين والسّياسيّين.

العنف نَمَط سلوكيّ مكتسب ومُتوارث عبر الأجيال. الثّقافة السّائدة في مجتمعنا تشجّع العنف وتمجّده. الصّغار يتعلّمون العنف من الكبار. الكبار يربّون على العنف. تعلّم العنف يبدأ بالأسرة: "اللّي بضربك أضربه"، بدّيش ايّاك ملطشه"، "تروّحش ع الدّار بلا ما توخذ حقّك بيدك"، "إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذّئاب"... الصّغار يتعلّمون العنف من الكبار، يرون عنف الرّجل ضدّ زوجته، يشاهدون كيف يحلّ الكبير المشاكل داخل الأسرة ومع جيرانه وأقاربه، فيكبر الصّغير على مفهوم خاطئ ومشوّه للرّجولة.

الأسرة – الحاضنة الأساسيّة للطّالب – كثيرا ما تتعرّض إلى اضطرابات وضغوطات كثيرة ومختلفة، نتيجة صعوبات اقتصاديّة أو اجتماعيّة: بطالة، فقر، مرض أَلَمَّ بأحد أفراد الأسرة، قمار، إدمان، حالات انفصال أو طلاق، نزاع شديد بين الإخوة أو الأقارب أو الجيران... يتعرّض الطّالب للصّدمات النّفسيّة وللأزمات العاطفيّة نتيجة القسوة والشّدّة والتّوتّر والضّغط والإضطراب والخوف والنّبذ والتّهميش والإقصاء والإحباط والحرمان، فيمتلئ بالغضب. والغضب هو منبع العنف. الطّالب لا يستطيع تصويب الغضب إلى مصدره – الأسرة، فيقوم (من باب ما بغدر للجمل بدقّ بالحداجة) بتحويل غضبه إلى عنوان آخر، فيصبّ جامّ غضبه على المدرسة بمن فيها، على المدير، لأنّه لم يدخله الإختصاص الّذي يريده دون أن يستحقّه، على المعلّم، لأنّه لم يسمح له أن يغشّ في الإمتحان، على المعلّمة، لأنّها لم تمنحه العلامة الواقية الّتي يطلبها، يكسر ويمزّق ويصرخ، لأنّه ولأنّه ولأنّه...

العنف لا يولد في المدارس، بل يُصَدَّرُ إليها من براكين البيوت، وأزقّة الشّوارع، ومحالّ الأراجيل، وبحار الإنترنت. المربّون والطّواقم المهنيّة من مستشارين ومعالجين اجتماعيّين ونفسانيّين، يعالجون في كلّ صباح ما خلّفته غرف الدّردشات في اللّيل، ويحاولون جادّين إصلاح مراكب بحر الإنترنت الهائج.

العنف يولّد العنف، وصدّ العنف بالعنف يؤجّجه ويُلهبه. صحيح أنّ العنف يبدأ في الأسرة والشّلّة ثمّ صيّادي البشر! ولكنّ العنف في المدارس هو نتاج التّفاعل بين العوامل الأسريّة الّتي ذكرناها، وبين العوامل الرّاهنة في المدرسة: قسوة المعلّمين، انعدام الحوار، الكبت، العقاب الجماعيّ، إدارة تسلّطيّة، الرّوتين في العمل، الإستهزاء، السّخريّة، التّهديد بالرّسوب وبالعلامة الواقية، التّهميش، الإهانة والإذلال، استخدام أساليب تعليميّة كلاسيكيّة وطرق تقويم قديمة، عدم تقبّل الآخر، عدم وضوح القواعد والمتابعة والملاحقة والمحاسبة، استعمال العقاب كوسيلة تربويّة...

كيفيّة مكافحته:

لا نستطيع - ولو اجتمعنا - أنْ نَئِدَ العنف، ولكن باستطاعتنا لَجْمه وكَبْح جماحه، إذا قام كلّ بواجبه، فكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. القادة السّياسيّون مطالبون بجسر الهوّة بما يتعلّق برصد الميزانيّات للتّربية والتّعليم، السّلطات المحلّيّة مطالبة بتطبيق الشّعارات الّتي يرفعونها دوما في الحملات الإنتخابيّة "التّعليم في أعلى سلّم أولويّاتنا"، ولن أطيل في هذين البابين، وأتركهما لذوي الشّأن.

أخشى ما أخشاه أن يدع الأهل أمر التّربية للمدرسة، وأن يلقوا فشلهم في تربية أبنائهم على المدرسة، فالبيت هو الحاضنة الأولى للطّالب، والمدرسة هي الحاضنة الثّانية. المدرسة متمّمة لمكارم الأخلاق. معًا نربّي ونبني، يدًا بيد نبني ونربّي. يجب أن يلتفت كلّ وليّ أمر إلى ابنه، وكلّ أمّ الى ابنتها، يجب بناء جسور الثّقة المتبادلة وتعزيز لغة الحوار حول الطاولة المستديرة. يجب نبذ ثقافة العنف وترسيخ ثقافة التّفاهم والحوار. يجب إسناد أمور التّعليم إلى رجال التّربية والتّعليم. فرض قبول ابنك إلى هذا التّخصّص أو ذاك، هو تصرّف عنيف! فرض وضع علامة واقية معيّنة لابنك دون استحقاقها، هو تصرف عنيف! انتهاك حرمة المدرسة جريمة يعاقب عليها القانون. تعرّض معلّم للعنف من قبل الأهل، يُعتبر شهادة فقر للمجتمع! توجيه فوّهة بندقيّة صوب مفتّش معارف مصيبة حلّت بنا! تصفية جسديّة لمدير مدرسة معناها تصفية علنيّة للتّربية والتّعليم في وضح النّهار!!.

دور المدرسة:

يمكن الحدّ من ظاهرة العنف في المدارس، إذا جعلناها جاذبة لا طاردة، وذلك بواسطة الإحتواء والإصغاء والإهتمام والتّواصل والحوار، بواسطة كسر الرّوتين باستعمال طرائق تعليم بديلة وجذّابة، ترسيخ "التّعليم ذو معنى" وربطه بالطّالب: بيئته، اهتماماته، عالمه، احتياجاته... نستطيع تحويل المدرسة إلى جاذبة بواسطة إجراء نشاطات وفعّاليّات لامنهجيّة هادفة، وورشات عمل علاجيّة، وإيجاد أطر جديدة تناسب اهتمامات الطّلّاب المختلفة، وبواسطة التّفكير بصورة غير تقليديّة، والعمل بأسلوب غير مألوف.

وظيفة المدرسة الحديثة، تتمثّل في تربية "المُتَمَدْرِس" ولا تقتصر على حشو عقله بالمعلومات! أعي جيّدًا أنّ الأمر ليس سهلا، فالتّربية ليست برنامجًا أو تطبيقًا يمكن تحميله من حاسوب نقّال أو دراسة أكاديميّة يمكن استخراجها من بطون الكتب، التّربية موهبة وأسلوب وفنّ وحبّ وإخلاص ومصداقيّة وسحر، مَن مَلَكَها مَلَكَ قلوب وعقول طلّابه!

دور الطالب:

"خذ على راسها شويّ"، كما يقولون. يجب أن تعرف ما لَكَ وما عَليك، لك الإحترام وتهيئة المُناخ التّربويّ الملائم، وتطوير قدراتك، ومساعدتك في إيجاد الحلول الملائمة لتخبّطاتك المشروعة، ومرافقتك في رسم معالم حياتك، أما أنت، فعليك احترام المدرسة، بمن فيها، والتّحلّي بمكارم الأخلاق وتبنّي لغة الحوار ونبذ كلّ أشكال العنف، والإلتزام بما ورد في دستورها.

الإنترنت - الشّبكة العنكبوتيّة - أحْدَث ثورة في العالم، وجَعَل الكرة الأرضيّة قرية صغيرة بلا حدود أو قيود، قَصَّرَ المسافات واختزل الزّمن، لكنّه سيف ذو حدّين، الإبحار غير الآمن له عواقب وخيمة جدًّا. العنف الإلكترونيّ ألْحَقَ الأذى بالكثير من أبنائنا وبناتنا. صحيح إنّ أَوْهَنَ البيوت لبيت العنكبوت، ولكن عَسَانا أن نتعلّم من العنكبوت كيف لا نقع في الشّباك، العنكبوت ينسُج خيوطه اللّزجة فتحطّ عليها فريسته فيلتقمها لقمة سائغة. ولكن أنّى له لا يقع في شباك نَسْجه؟ خيوط العنكبوت نوعان: خيوط لزجة وأخرى جافّة، فيمشي على الخيوط الجافّة فلا يقع في شباك نفسه!

عزيزي الطّالب، أي أخيّة!

يجب أن تتعلّموا من العنكبوت كيف تبحرون في بحر الشّبكة العنكبوتيّة بشكل آمن فتنجون من الغرق.

أهلنا الكرام!

اِجعلوا تربية أبنائكم مشروع حياتكم، قبل أن يصبح مشروع حياتكم إنقاذ ابنكم!
أيّها المربّي الفاضل!

اِجعل إخلاصك في عملك رصيدك، وبطاقة هويّتك المهنيّة، ولا تجعل الــــ(50) بطاقة هويّة "اللّي بتمون عليهن يوم المعركة الانتخابيّة" رصيدك!

حضرة المدير!

إذا تَقدَّمَتْ ذاتُ الحَسَب أو النَّسَب أو الجمال لمنصب ما، فاظْفَر بذاتِ الكفاءة تَرِبَتْ يَداك!

والمفتّش، عِلْمُهُ عندَ الله!

الشّعور بالمسؤوليّة تجاه بغلة في أقصى الأرض، جعل الفاروق عمر بن الخطّاب _رضي الله عنه_ يقول مقولته الشّهيرة: "لَو عَثَرَتْ بغلةٌ في العراقِ لَسَأَلَنِي اللهُ تَعالى عنها: لِمَ لَمْ تُمَهِّدْ لها الطّريق يا عمر!".

هذه مسؤوليّة الفاروق تجاه بغلة، فأين مسؤوليتنا تجاه أبنائنا وطلابنا؟.

مدير مدرسة الرينة الثانوية

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net 

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة