عبد المنعم سعيد:
عشرات من هذه الدروس الصغيرة جرت بينه وبينى، وأظنه كان يفعل ذلك مع كل من تتلمذوا على يديه، وتعلموا ليس فقط من علمه، وإنما أكثر من ذلك تجربته العالمية الواسعة
ربما لأول مرة أعرف معنى عبارة «أن نعزى أنفسنا»، لأن المصاب في حالة وفاة الأستاذ الدكتور بطرس غالى ليس فقط عائلته وأصدقاءه وإنما تلاميذه ومن اعتبروه منارة للعلم والمعرفة
كان الصباح سبتمبريا من أيام 1966 حينما كان سبتمبر لا يزال فيه نوع من برودة الخريف وليس سخونة الصيف الحالية، منعشا مع لسعة ناعمة، وحيوية هائلة تدب في حفنة من طلبة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالسنة الأولى وهم يعبرون النصب التذكارى أمام جامعة القاهرة ثم الشارع، في اتجاه مبنى الملحق بجوار كلية الهندسة حيث يقبع في ذلك الوقت مكتب الأستاذ الدكتور بطرس بطرس غالى.
قبل أيام كنا قد أصبحنا طلبة في الجامعة العريقة، وفى الكلية الفتية، واستمعنا إلى أول محاضرات الدكتور بطرس في مادة «المدخل في علم السياسة». كان أنيقا بشدة، البدلة رصاصية، ومعها رابطة عنق بلون نبيذ أحمر قان على قميص أبيض.
كان القد ممشوقا ورياضيا ليس فيه جرام من الشحم، ومعه الحديث واضح عما سوف ندرسه خلال العام. وما كان مفاجأة لطلبة حصلوا على الثانوية العامة منذ شهور، أنه سوف تكون هناك ساعة مكتب يمكن للطلبة أن يأتوا إليها ليناقشوا الأستاذ فيما يريدون من شؤون مادة االدراسة. ما كان مزعجا لنا، كان طريقة نطقه للكلمات كان فيها نوع من الالتواء اختلاطا بلغات أجنبية خاصة عندما كان يتحدث عن «فلسطين» فتصير «بالستين».
كانت جماعة الطلبة التي دخلت الكلية المرموقة بمجاميعهم العالية تتصور أن دراسة السياسة ما هي إلا سبيل لتحقيق الأهداف الوطنية العظمى، والتى كانت تلخيصها في تلك الأيام: تحقيق الوحدة العربية الشاملة، وتحرير فلسطين.
كان تصورنا أنه على أساتذتنا تعليمنا كيف نحقق هذه الغايات التي أضاف لها كل واحد منا ما أراد من أهداف جسام. حدث اللقاء في النهاية، ولم يكن لدينا أسئلة نسألها، وإنما آراء نريد التعبير عنها، وبقدر غير قليل من الحماس، وبعض من الخطابة التي تعودنا عليها من قبل في الإذاعة المدرسية لمدارسنا الثانوية. لم يمض وقت طويل حتى قاطعنا الدكتور بطرس متسائلا: هل يعلم أحد منكم عاصمة كولمبيا؟ نزل دلو الثلج على رؤوسنا جميعا، فلم يكن أحد منا يعرف شيئا عن «بوجوتا»، وظهر أننا ربما سوف نسير في طريق لم نألفه من قبل، وبعد أن دوى الصمت على الحجرة قال لنا واقفا أن نذهب ونعرف العاصمة وبعدها نعود إليه!!
كان الدرس قاسيا لأنه قدم المعرفة أولا على حماس الشعارات الرنانة، لم تكن القضية معرفة عاصمة دولة في أمريكا الجنوبية، وإنما أن من يريد تحقيق الوحدة العربية وتحرير فلسطين عليه أن يتعلم بحق العلوم السياسية من خلال ثقافة سياسية واسعة تشمل العالم كله. كانت هذه هي بداية المعرفة بالرجل الذي صار فيما بعد سكرتيرا عام للأمم المتحدة، ولكن الظروف جعلتنى على درجة من القرب خلال سنوات الدراسة بالجامعة بعدما أصبحت طالبا حريصا على ساعة المكتب، خاصة خلال السنة الثالثة عندما كان يدرس مادة «التنظيم الدولى». ومضت ست سنوات بعد ذلك حتى رحب بى باحثا في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام ومكلفا بكتابة كتاب (بالمشاركة مع الدكتور مصطفى علوى) عن «مصر وأمريكا». ولما كنت أحدث الباحثين في المركز فقد أناط بى كتابة محضر ندوة عن الجامعة العربية تكون صالحة للنشر في الأهرام وأعطانى أسبوعا لكى أحقق تلك الغاية. وبعد ثلاثة أيام استدعانى على عجل، وعندما دخلت إلى مكتبه سألنى عن مقال الندوة، فلما أجبته بأنه أعطانى أسبوعا للمهمة، قال هذا صحيح ولكن معنى ذلك أن تكون قد أنجزت نصف المهمة!.
عشرات من هذه الدروس الصغيرة جرت بينه وبينى، وأظنه كان يفعل ذلك مع كل من تتلمذوا على يديه، وتعلموا ليس فقط من علمه، وإنما أكثر من ذلك تجربته العالمية الواسعة. ولم يحدث مرة أن قابلته إلا وكان متابعا لما كتبت وحاضرت في مصر وخارجها، وتدريجيا، ورغما عنى، بدأ ستار العلاقة بين الأستاذ وتلميذه يزول، ويحل محله ما هو أشبه بعلاقة الزملاء، أو هكذا كان الحال من جانبه. وربما شعرت بدرجة من القرب عندما انتهت فترة قيادته للأمم المتحدة، وخلال لقاء في مركز الأهرام، باح لنا بأن عرضا يوجد أمامه لكى يكون سكرتيرا عاما للفرانكفونية وسألنا الرأى. أبديت اعتراضى على القبول، وكانت حجتى أنه لا يوجد بعد الأمم المتحدة منصب في الدبلوماسية الدولية يليق به. كان رأى الآخرين أنه لا يستطيع أبدا الركون إلى المعاش، أو السكون فيما يخص حركة العلاقات الدولية التي تعود عليها، وأظنه كان يميل لهذا الرأى فقبل المنصب.
لا أدعى أننى كنت قريبا منه، ولكن لقاءتنا المتكررة على فترات متباعدة، حملت كثيرا من الدروس التي كان يعطيها بكرم شديد وبخفة ظل ملحوظة. وعندما زرته في مكتبه وزيرا للدولة للشؤون الخارجية، وأخبرته أننى سوف أعد رسالة الدكتوراه عن القرار المصرى في حرب أكتوبر إذا به يثنينى عن ذلك وينصح بدراسة القرار الأمريكى خلال الحرب. كان يعلم الكثير عن الصرامة الأمريكية في الدراسة، كما أنه يعلم ندرة المعلومات الحقيقية والمتاحة عما جرى في مصر، وكان يريد لرسالتى وقتا معلوما أنتهى فيه وأعود إلى الوطن.
كان هذا اللقاء مختلفا كثيرا عن آخر اللقاءت والتى حدثت قبل سفرى للولايات المتحدة للدراسات العليا في سبتمبر 1977. ففى سابقة لم تحدث من قبل، قام مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بقبول منحة من جامعة «تيلبرج» في جنوب هولندا لمدة فصل دراسى أو حوالى أربعة شهور للقيام ببحث، وكتابة كتيب عن «الحوار العربى الأوروبى». وقع اختيار المركز على، وأكثر من ذلك منحنى الأهرام بدلا للسفر قدره ثلاثة آلاف دولار، وهو مبلغ كان في ذلك الوقت يمثل ثروة كبيرة. وبينما أقوم بالمهمة عرض على أستاذ أمريكى تزاملنا في إلقاء المحاضرات أن ألتحق بجامعته (شمال إلينوى) لدراسة الدكتوراه، وأكثر من ذلك جاء بأوراق الالتحاق وأرسلها وطلب منى أن أحضر شهاداتى الجامعية، وبعضا من التوصيات من أساتذة مرموقين وضرب مثلا بالدكتور بطرس غالى الذي بلغ صيته الولايات المتحدة منذ فترة كبيرة. وبسلامة نية بالغة أرسلت إلى أحد الزملاء طالبا استيفاء هذه الأوراق والحصول على التوصيات. لم يحدث ذلك، للأسف، فعدت إلى القاهرة وإذا بى أجد أستاذى غاضبا بشدة، فقد وصلت له المسألة على أننى سوف أذهب من هولندا إلى أمريكا مباشرة، وبدا الأمر كما لو أننى لم أقدر بدل السفر الذي حصلت عليه ومن ثم فإن على المكوث في المركز لمدة عامين قبل السفر مرة أخرى. سلمت بهذه النتيجة، وبدأت الاستعداد للانتهاء من رسالتى للماجستير عن «السياسة الخارجية لمنظمة التحرير الفلسطينية». وفى يوم 22 يوليو 1977 تلقيت رسالة قبول من الجامعة حتى قبل أن أستكمل أوراق الالتحاق؛ فأخذت خطاب القبول وذهبت إلى أستاذى مرة أخرى. انفرجت أساريره على ابتسامة واسعة يعرف عذوبتها من يعرفونه كان معها تهنئة حارة قائلا: هذا واقع جديد، ومن قبل كان مجرد مشروع لا نعرف جديته، أما الآن فإن أمامنا فرصة حقيقية عليك أن تنتهزها للحصول على الدكتوراه. كتب خطاب التوصية، ومعه كانت مجموعة كبيرة من المعرفة حول الدراسات العليا في الولايات المتحدة. أكملت أوراقى وسافرت متأخرا بعد أن بدأ الدراسة بخمسة أسابيع. عملية التأخير هذه قصة أخرى على أي حال، تروى في وقت ومكان آخر!.
ربما لأول مرة أعرف معنى عبارة «أن نعزى أنفسنا»، لأن المصاب في حالة وفاة الأستاذ الدكتور بطرس غالى ليس فقط عائلته وأصدقاءه وإنما تلاميذه ومن اعتبروه منارة للعلم والمعرفة وكيفية التعامل والسير في دروب العالم. في هذه الحالة هناك خيط رفيع شفاف بين الأستاذ وتلامذته يختفى بينما الحياة تدور دورتها، ولكنه يظهر بارقا لامعا بمجرد اللقاء. الآن لن تكون هناك لقاءت مرة أخرى بالصدفة أو بدعوة من أصدقاء. خالص العزاء للعائلة الكريمة في أستاذ كريم له في رقابنا دين عظيم.
*نقلا عن صحيفة "المصري اليوم"
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net